سليمان الباروني باشا
1290هـ/1873م – 1359هـ/1940م
بقلم د. صالح ناصر
هو سليمان بن عبد الله بن يحي الباروني باشا.
مؤرخ، أديب، و مجاهد بالسيف و القلم.
من مواليد مدينة (جادو) من جبل نفوسة سنة 1290م/1873م على الأرجح.
يعود أصله إلى القبيلة البروانية ذات الأصل العماني (أبو اليقظان، الباروني، ج1، ص9). و قد نشأ الباروني في عائلة عرف تاريخها منذ القرن الرابع الهجري في مدينة طرابلس بمسيرتها الجهادية و العلمية.
في ظل والده عبد الله العالم الأزهري (ت: 1332هـ/ 1914م) نشأ و تعلم.
و في سنة 1305هـ/1887م سافر إلى جامع الزيتونة بتونس حيث تتلمذ على شيوخ أجلاء، من أبرزهم عثمان المكي، و محمد النخلي.
و في سنة 1310هـ /1892م سافر إلى القاهرة، حيث درس بالجامع الأزهر مدة ثلاث سنوات.
و في سنة 1313هـ /1895م شد الرحال إلى بني يزقن من وادي ميزاب جنوب الجزائر، حيث جلس إلى قطب الأئمة الشيخ اطفيش الذي وجد عنده الرعاية و العناية، و كان الشيخ اطفيش مرجع الإباضية في العلم الشرعي و اللغوي، و قد توطدت علاقته برجال العلم، و أعيان الفضل بميزاب. و أقام هناك حتى سنة 1316هـ/ 1897م.
و يبدو أن الباروني كان متأثرا بشيخه اطفيش، محبا له، عاملا بتوجيهاته العلمية و السياسية، و قد قال عند يوم بلغه خبر وفاته سنة 1332هـ/ 1914م أنه لم يهتز للمحن التي مر بها قط، و لم تدمع عيناه إلا لوفاة شيخه، و والده.
واجهته المحن الشديدة بالإمتحانات العسيرة منذ مطلع شبابه ، فغادر طرابلس سنة :1902م
إلى يفرن مركز الجبل الغربي ، وبها أسس مدرسة سنة 1904م سماها المدرسة البارونية ، وتولى الإشراف عليها والده الشيخ عبد الله الباروني ، وكانت مدرسة نظامية تدرس العلوم الشرعية واللغوية ، وأنشأ إلى جوارها المكتبة البارونية التي ضمنت نفائس الكتب والمخطوطات ، وتابع في هذه الفترة تأليف كتاب الأزهار الرياضية ، ولعل الباروني ضاق ذرعا لمضايقات السلطات الحاكمة التي ما فتئت تلاحقه فقر عزمه على السفر خارج البلاد متجها إلى مصر ، وبالقاهرة وجد المجال فسيحا للتأليف والطبع والنشر ، والإلتقاء بالعلماء ، فأسس بها سنة : 1906م مطبعة سماها : مطبعة الأزهار البارونية أخذ يطبع فيها ما يراه صالحا من كتب الحديث والتاريخ والأدب ، ولعل أهم إنجاز في هذه المرحلة هو إنشاؤه جريدة الأسد الإسلامي التي أرادها صوتا مدويا للمسلمين تعرف بمواقعهم وتدعو إلى وحدتهم (صدر منها ثلاثة أعداد فقط ثم توقفت لأسباب سياسية ومادية . صدر العدد الأول منها في أبريل سنة : 1908م )
الباروني في ميدان الجهاد:
نستطيع أن نجمل مراحل جهاد الباروني ضد الإيطاليين في ثلاثة أطوار:
الطور الأول: يبتدئ من يوم إعلان إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في طرابلس الغرب يوم 26 سبتمبر، و ينتهي عند آخر معركة له يوم 12 مارس 1913م.
الطور الثاني: يبتدئ من أواسط 1914م و ينتهي في أوائل 1916م
الطور الثالث: يبتدئ من حوالي أكتوبر 1916م، و ينتهي إلى يوم اعتراف إيطاليا بحكومة طرابلس الجمهورية الوطنية، و إمضاء قانونها الأساسي في 21 أبريل 1919م.
و في كل هذه الاطوار كان لسليمان الباروني مواقف و معارك، و بذل و فداء.
لقد بذل الطليان جهدا و مالا و أرواحا في سعيهم لاحتلال إقليمي "طرابلس" و "برقة"، فما نالوا بعد حرب سبع سنين، تعاقب فيها الكر و الفر، سوى بضع مدن على الساحل، لم تستطع أن تمنحهم الأمن و الطمأنينة، و لا الإنتصار الساحق الذي ظنوه أول الأمر.
و لكي تكتمل المؤامرة فصولا، سعى الإيطاليون إلى تقسيم آراء المجاهدين عن طريق المفاوضات و الحرب في آن واحد، فاتفق العرب و الطليان على قاعدة للصلح هي منح الشعب الطرابلسي دستورا يخوله مباشرة حقوقه المدنية و السياسية، و يعطيه الحق في القيام بواجباته الكبرى مثل الشعوب المتمدنة، و تم في الأول من مايو 1919م وضع القانون الأساسي، و عين بموجبه أعضاء حكومة القطر الطرابلسي، و هم ثمانية. لكن المجاهد سليمان الباروني الذي آمن بالاستقلال أو الإنضواء تحت دولة اسلامية، اعتذر عن الدخول في هذه اللعبة رغم الإلحاح عليه، و حجته في ذلك أنه عثماني، و يريد الاحتفاظ بعثمانيته، و بوظيفته في مجلس الشيوخ العثماني.
و ما لبث أن غادر الباروني طرابلس إلى الأستانة في نفمبر 1919م، و لكن صادف قدومه إليها انقلاب الكماليين بقيادة مصطفى كمال أتاتورك عدو الخلافة الإسلامية، فخابت آماله، و عاد أدراجه إلى طرابلس مع مطلع العام الثاني بعد أن لبث بها ثلاثة أشهر.
عاش سليمان الباروني بعد عودته إلى طرابلس بعيدا عن السياسة و أضوائها، و هو متيقن في أعماق نفسه أن هذا الأمن تحت الحكم الإيطالي لن يستمر، لأن إيطاليا تتطلع إلى جعل طرابلس و برقة مستعمرتين تابعتين لها، و هنا توالت الدسائس مرة أخرى ضد الباروني الذي أتهم بإحداث الفتنة في صفوف المواطنين. فلم تلبث السلطات الإيطالية أن طلبت منه مغادرة البلاد سنة 1922م، و تحت المؤامرة و التهديد غادر وطنه دون أن يودع أهله و أولاده.
حملته ريح الإغتراب مرة أخرى إلى الأستانة، ثم إلى أنقرة، و لم يستقر به المقام هناك بسبب تغير الحكام، فحاول السفر إلى الشام أو مصر أو تونس أو الجزائر، لكن الاستعمار الانجليزي و الإيطالي و الفرنسي أجمع على محاصر ة سليمان الباروني، فلم يجد حيلة سوى التنكر تحت جواز سفر مغاير لاسمه، فانتقل إلى باريس، و لكن ما إن تفطنت الحكومة الفرنسية إليه حتى فرضت عليه المراقبة الشديدة، و منعته من مغادرة فرنسا.
و بعد سنتين قضاها في فرنسا مراقبا، أتيح له السفر لأداء فريضة الحج.
و بطلب من الباروني لزيارة إخوانه العمانيين، توسطت له الحكومة العربية لدى السلطات الإنجليزية لتسمح له بزيارة مسقط و عمان. و قد رحب بهذه البادرة كل من السلطان تيمور، و الإمام الخليلي. و وصل عمان أوائل سنة 1926م، و استقبل استقبالا رسميا حافلا. فكانت هذه اللفتة جديرة بأن تنسيه متاعب الإغتراب، و آلام النفي، و مشاق السفر.
و كانت سنتان ظل فيهما الباروني محل رعاية و إجلال حيثما حل من أرض عمان، و قد خلد أدباؤها و شعراؤها هذه المناسبات بقصائدهم، و لم يغفل الباروني أن يسجل خواطره تجاه هذا التحول العظيم في حياته سلبا و إيجابا في رسائله التي كان يراسل بها إخوانه بالجزائر.
و كان هم الباروني الدعوة إلى جمع الكلمة و الاتحاد، و إصلاح الصدع الذي كان يطفو على السطح في العلاقات بين السلطان و الإمام من حين إلى آخر، حيث كان موضع الثقة و الإستشارة من الطرفين.
1290هـ/1873م – 1359هـ/1940م
بقلم د. صالح ناصر
هو سليمان بن عبد الله بن يحي الباروني باشا.
مؤرخ، أديب، و مجاهد بالسيف و القلم.
من مواليد مدينة (جادو) من جبل نفوسة سنة 1290م/1873م على الأرجح.
يعود أصله إلى القبيلة البروانية ذات الأصل العماني (أبو اليقظان، الباروني، ج1، ص9). و قد نشأ الباروني في عائلة عرف تاريخها منذ القرن الرابع الهجري في مدينة طرابلس بمسيرتها الجهادية و العلمية.
في ظل والده عبد الله العالم الأزهري (ت: 1332هـ/ 1914م) نشأ و تعلم.
و في سنة 1305هـ/1887م سافر إلى جامع الزيتونة بتونس حيث تتلمذ على شيوخ أجلاء، من أبرزهم عثمان المكي، و محمد النخلي.
و في سنة 1310هـ /1892م سافر إلى القاهرة، حيث درس بالجامع الأزهر مدة ثلاث سنوات.
و في سنة 1313هـ /1895م شد الرحال إلى بني يزقن من وادي ميزاب جنوب الجزائر، حيث جلس إلى قطب الأئمة الشيخ اطفيش الذي وجد عنده الرعاية و العناية، و كان الشيخ اطفيش مرجع الإباضية في العلم الشرعي و اللغوي، و قد توطدت علاقته برجال العلم، و أعيان الفضل بميزاب. و أقام هناك حتى سنة 1316هـ/ 1897م.
و يبدو أن الباروني كان متأثرا بشيخه اطفيش، محبا له، عاملا بتوجيهاته العلمية و السياسية، و قد قال عند يوم بلغه خبر وفاته سنة 1332هـ/ 1914م أنه لم يهتز للمحن التي مر بها قط، و لم تدمع عيناه إلا لوفاة شيخه، و والده.
واجهته المحن الشديدة بالإمتحانات العسيرة منذ مطلع شبابه ، فغادر طرابلس سنة :1902م
إلى يفرن مركز الجبل الغربي ، وبها أسس مدرسة سنة 1904م سماها المدرسة البارونية ، وتولى الإشراف عليها والده الشيخ عبد الله الباروني ، وكانت مدرسة نظامية تدرس العلوم الشرعية واللغوية ، وأنشأ إلى جوارها المكتبة البارونية التي ضمنت نفائس الكتب والمخطوطات ، وتابع في هذه الفترة تأليف كتاب الأزهار الرياضية ، ولعل الباروني ضاق ذرعا لمضايقات السلطات الحاكمة التي ما فتئت تلاحقه فقر عزمه على السفر خارج البلاد متجها إلى مصر ، وبالقاهرة وجد المجال فسيحا للتأليف والطبع والنشر ، والإلتقاء بالعلماء ، فأسس بها سنة : 1906م مطبعة سماها : مطبعة الأزهار البارونية أخذ يطبع فيها ما يراه صالحا من كتب الحديث والتاريخ والأدب ، ولعل أهم إنجاز في هذه المرحلة هو إنشاؤه جريدة الأسد الإسلامي التي أرادها صوتا مدويا للمسلمين تعرف بمواقعهم وتدعو إلى وحدتهم (صدر منها ثلاثة أعداد فقط ثم توقفت لأسباب سياسية ومادية . صدر العدد الأول منها في أبريل سنة : 1908م )
الباروني في ميدان الجهاد:
نستطيع أن نجمل مراحل جهاد الباروني ضد الإيطاليين في ثلاثة أطوار:
الطور الأول: يبتدئ من يوم إعلان إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية في طرابلس الغرب يوم 26 سبتمبر، و ينتهي عند آخر معركة له يوم 12 مارس 1913م.
الطور الثاني: يبتدئ من أواسط 1914م و ينتهي في أوائل 1916م
الطور الثالث: يبتدئ من حوالي أكتوبر 1916م، و ينتهي إلى يوم اعتراف إيطاليا بحكومة طرابلس الجمهورية الوطنية، و إمضاء قانونها الأساسي في 21 أبريل 1919م.
و في كل هذه الاطوار كان لسليمان الباروني مواقف و معارك، و بذل و فداء.
لقد بذل الطليان جهدا و مالا و أرواحا في سعيهم لاحتلال إقليمي "طرابلس" و "برقة"، فما نالوا بعد حرب سبع سنين، تعاقب فيها الكر و الفر، سوى بضع مدن على الساحل، لم تستطع أن تمنحهم الأمن و الطمأنينة، و لا الإنتصار الساحق الذي ظنوه أول الأمر.
و لكي تكتمل المؤامرة فصولا، سعى الإيطاليون إلى تقسيم آراء المجاهدين عن طريق المفاوضات و الحرب في آن واحد، فاتفق العرب و الطليان على قاعدة للصلح هي منح الشعب الطرابلسي دستورا يخوله مباشرة حقوقه المدنية و السياسية، و يعطيه الحق في القيام بواجباته الكبرى مثل الشعوب المتمدنة، و تم في الأول من مايو 1919م وضع القانون الأساسي، و عين بموجبه أعضاء حكومة القطر الطرابلسي، و هم ثمانية. لكن المجاهد سليمان الباروني الذي آمن بالاستقلال أو الإنضواء تحت دولة اسلامية، اعتذر عن الدخول في هذه اللعبة رغم الإلحاح عليه، و حجته في ذلك أنه عثماني، و يريد الاحتفاظ بعثمانيته، و بوظيفته في مجلس الشيوخ العثماني.
و ما لبث أن غادر الباروني طرابلس إلى الأستانة في نفمبر 1919م، و لكن صادف قدومه إليها انقلاب الكماليين بقيادة مصطفى كمال أتاتورك عدو الخلافة الإسلامية، فخابت آماله، و عاد أدراجه إلى طرابلس مع مطلع العام الثاني بعد أن لبث بها ثلاثة أشهر.
عاش سليمان الباروني بعد عودته إلى طرابلس بعيدا عن السياسة و أضوائها، و هو متيقن في أعماق نفسه أن هذا الأمن تحت الحكم الإيطالي لن يستمر، لأن إيطاليا تتطلع إلى جعل طرابلس و برقة مستعمرتين تابعتين لها، و هنا توالت الدسائس مرة أخرى ضد الباروني الذي أتهم بإحداث الفتنة في صفوف المواطنين. فلم تلبث السلطات الإيطالية أن طلبت منه مغادرة البلاد سنة 1922م، و تحت المؤامرة و التهديد غادر وطنه دون أن يودع أهله و أولاده.
حملته ريح الإغتراب مرة أخرى إلى الأستانة، ثم إلى أنقرة، و لم يستقر به المقام هناك بسبب تغير الحكام، فحاول السفر إلى الشام أو مصر أو تونس أو الجزائر، لكن الاستعمار الانجليزي و الإيطالي و الفرنسي أجمع على محاصر ة سليمان الباروني، فلم يجد حيلة سوى التنكر تحت جواز سفر مغاير لاسمه، فانتقل إلى باريس، و لكن ما إن تفطنت الحكومة الفرنسية إليه حتى فرضت عليه المراقبة الشديدة، و منعته من مغادرة فرنسا.
و بعد سنتين قضاها في فرنسا مراقبا، أتيح له السفر لأداء فريضة الحج.
و بطلب من الباروني لزيارة إخوانه العمانيين، توسطت له الحكومة العربية لدى السلطات الإنجليزية لتسمح له بزيارة مسقط و عمان. و قد رحب بهذه البادرة كل من السلطان تيمور، و الإمام الخليلي. و وصل عمان أوائل سنة 1926م، و استقبل استقبالا رسميا حافلا. فكانت هذه اللفتة جديرة بأن تنسيه متاعب الإغتراب، و آلام النفي، و مشاق السفر.
و كانت سنتان ظل فيهما الباروني محل رعاية و إجلال حيثما حل من أرض عمان، و قد خلد أدباؤها و شعراؤها هذه المناسبات بقصائدهم، و لم يغفل الباروني أن يسجل خواطره تجاه هذا التحول العظيم في حياته سلبا و إيجابا في رسائله التي كان يراسل بها إخوانه بالجزائر.
و كان هم الباروني الدعوة إلى جمع الكلمة و الاتحاد، و إصلاح الصدع الذي كان يطفو على السطح في العلاقات بين السلطان و الإمام من حين إلى آخر، حيث كان موضع الثقة و الإستشارة من الطرفين.