بسم الله الرحمن الرحيم
حدث لي أمس أمر كان يحدث منذ بدأت الكتابة ؛ تخطرُ الفكرة على ذهني متألقة واضحة جميلة، فأهتف في داخلي " وجدتها.. وجدتها.. " وأستدعي قلماً لأكتبها في دفتري الصغير أو مفكرتي، أو في ورقة، وحين لا أجد ألتفت يميناً وشمالاً ثم أرقمها بكلمات مختصرة على راحة يدي ! حيث لا يراني أحد ! ريثما أعود لأنقلها في مكانها، كما هي ؛ عنوانات مختصرة وتعبيرات موجزة, مهمتها حفظ الفكرة حتى لا تهرب؛ لأستذكرها يوماً من الدهر فأكتبها مفصّلة.
تعلمتُ أن الأفكار الجميلة والمبدعة مبثوثة في كل مكان وأنه لا وقت محدداً لبزوغها، وأن الحقائق والمعارف منثورة بفضل الخلّاق البديع -جل وتعالى- في البرّ والبحر، والعقول اللمّاحة تصطادها وتستقبلها وتتأملها، ثم تفضي بها إلى الألسن الفصيحة والأقلام السيّالة حتى تنتقل من عالم الفردية إلى عالم الجماعية، ويتداولها الناس، ويمحصّونها ويطوّرونها ومن هنا تتوالد الأفكار وتتلاقح، وتنقل من ميدان إلى آخر ؛ فالحياة البشرية لا تحتمل أسواراً بين العلوم، والفكرة الرشيدة قد تنشأ في حقل معرفي, ثم تُوظف في حقل آخر بعيد عنه.
العقل الواثق المتفتح بحّاث عن الأفكار الصائبة، يقتبسها من كتاب، أو حديث عابر، أو يستنبطها من ملاحظة كونية، أو تخطر له من حيث يدري و لا يدري، والفكرة هنا قد تحمل شاهدَ صدقها بنفسها، فشاهدها منها، أو تحتاج إلى من يعزّزها ويصدقها، أو تلتبس بفكرة خاطئة فيتعين فرزها وتمييزها، وإطارها العام هو أن تكون في الدائرة الواسعة من مجالات الفكر التي لا تعاند الشريعة، ولا تتقحم حجب الغيب المستور عن الخلق، ولا تخترق حدود الله , وقد يكون إطارها شرعياً بحتاً ؛ فلابد حينئذٍ من الرضوخ لما قاله أبو سليمان الداراني -رحمه الله- من أن الفكرة أو الخطرة تهجم على قلبه؛ فلا يقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة.. والشاهد الواحد يكفي إذا كان صريحاً فحسبك بنص محكم من كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
راجعت كمّاً غير قليل من أضابيري، ووجدت فيها عنوانات، ورسوم كلمات، ومشروعات لأفكار كان يفترض أن أكتبها، ولكن الفكرة شردت؛ لأن توثيقها وتقييدها لم يكن محكماً، فما زالت تنازع القيد، وتضرب برجلها حتى انعتقت وتفلّتت.
حقاً.. كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة.
شعرت بشيء من الأسى على أفكار ومقولات وحكم استشرفها الإنسان ، فسُرّ وفرح، واستعجل رسمها حتى لا تضيع، وعاد إليها بَعدُ فلم يفلح في فكّ رموزها، ولا اهتدى إلى حقيقتها سبيلاً.
كان شيوخنا يلقنوننا في زمن الدرس :
العلم صيد والكتابة قيده *** قيّد صيودك بالحبال الواثقهْ
فمن الحماقة أن تصيد غزالة *** وتضيعها بين الخلائق طالقهْ
وما أجمل تشبيه الفكرة بالغزالة في رشاقتها وسرعتها وعبورها إلى كناسها، وهو موضع اختفائها..
وكذلك هي النجوم (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)
.
إنّ من دلالات ضعف الفكر أن يتأمل المرء موضوعاً ما، فتنقدح له معانٍ وحكم وأسرار ومعارف، ثم يعود بعد ساعة محاولاً أن يستذكر أو يكيّف فلا يجد إلا سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء, حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
تعلمتُ من تكرار وقوع هذا الأمر :
أولاً : من مظاهر الكرم الإلهي نشر الحقائق والأفكار النافعة للناس، ولعلها بعدد ذرّات الكون أو تزيد، وهي في كل منعطف ووادٍ ولحظة, تتبرج للناس وتناديهم إليها، إنها مناجم هائلة لمن يهتدي إليها سبيلاً.
ثانياً : ومن كرمه تعالى رزق الناس العقول وسلطها على ما حولها مما هو في مقدورها ومن اختصاصها، تكتشف وتتعرف وتبدع (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43).
ولعل من إهدار العقل أن يظن أنه خُلق للحفظ والاستظهار والترديد فحسب، دون أن يضيف ويحلّل ويتأمل ويفكّ الرموز، أو أن يسيطر الجزع والخوف والتردد على المرء؛ فيحرمه لذة مشاهدة الجديد واقتباسه.
ثالثاً : اللغة والتعبير فضل لا يقل عن العقل (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة: من الآية31)، وقد يخذل البيان فكرة صحيحة، أو ينمق فكرة واهية، ولذا قال سبحانه : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)(الأنعام: من الآية112).
رابعاً : خير الأفكار ما كان تثبيتاً لدين, أو إصلاحاً لدنيا، أو كانت غايته تحقيق المؤاخاة بين هذين الغرضين.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا
منقول منقول
سلمان العوده
******
زهرة
حدث لي أمس أمر كان يحدث منذ بدأت الكتابة ؛ تخطرُ الفكرة على ذهني متألقة واضحة جميلة، فأهتف في داخلي " وجدتها.. وجدتها.. " وأستدعي قلماً لأكتبها في دفتري الصغير أو مفكرتي، أو في ورقة، وحين لا أجد ألتفت يميناً وشمالاً ثم أرقمها بكلمات مختصرة على راحة يدي ! حيث لا يراني أحد ! ريثما أعود لأنقلها في مكانها، كما هي ؛ عنوانات مختصرة وتعبيرات موجزة, مهمتها حفظ الفكرة حتى لا تهرب؛ لأستذكرها يوماً من الدهر فأكتبها مفصّلة.
تعلمتُ أن الأفكار الجميلة والمبدعة مبثوثة في كل مكان وأنه لا وقت محدداً لبزوغها، وأن الحقائق والمعارف منثورة بفضل الخلّاق البديع -جل وتعالى- في البرّ والبحر، والعقول اللمّاحة تصطادها وتستقبلها وتتأملها، ثم تفضي بها إلى الألسن الفصيحة والأقلام السيّالة حتى تنتقل من عالم الفردية إلى عالم الجماعية، ويتداولها الناس، ويمحصّونها ويطوّرونها ومن هنا تتوالد الأفكار وتتلاقح، وتنقل من ميدان إلى آخر ؛ فالحياة البشرية لا تحتمل أسواراً بين العلوم، والفكرة الرشيدة قد تنشأ في حقل معرفي, ثم تُوظف في حقل آخر بعيد عنه.
العقل الواثق المتفتح بحّاث عن الأفكار الصائبة، يقتبسها من كتاب، أو حديث عابر، أو يستنبطها من ملاحظة كونية، أو تخطر له من حيث يدري و لا يدري، والفكرة هنا قد تحمل شاهدَ صدقها بنفسها، فشاهدها منها، أو تحتاج إلى من يعزّزها ويصدقها، أو تلتبس بفكرة خاطئة فيتعين فرزها وتمييزها، وإطارها العام هو أن تكون في الدائرة الواسعة من مجالات الفكر التي لا تعاند الشريعة، ولا تتقحم حجب الغيب المستور عن الخلق، ولا تخترق حدود الله , وقد يكون إطارها شرعياً بحتاً ؛ فلابد حينئذٍ من الرضوخ لما قاله أبو سليمان الداراني -رحمه الله- من أن الفكرة أو الخطرة تهجم على قلبه؛ فلا يقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة.. والشاهد الواحد يكفي إذا كان صريحاً فحسبك بنص محكم من كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
راجعت كمّاً غير قليل من أضابيري، ووجدت فيها عنوانات، ورسوم كلمات، ومشروعات لأفكار كان يفترض أن أكتبها، ولكن الفكرة شردت؛ لأن توثيقها وتقييدها لم يكن محكماً، فما زالت تنازع القيد، وتضرب برجلها حتى انعتقت وتفلّتت.
حقاً.. كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة.
شعرت بشيء من الأسى على أفكار ومقولات وحكم استشرفها الإنسان ، فسُرّ وفرح، واستعجل رسمها حتى لا تضيع، وعاد إليها بَعدُ فلم يفلح في فكّ رموزها، ولا اهتدى إلى حقيقتها سبيلاً.
كان شيوخنا يلقنوننا في زمن الدرس :
العلم صيد والكتابة قيده *** قيّد صيودك بالحبال الواثقهْ
فمن الحماقة أن تصيد غزالة *** وتضيعها بين الخلائق طالقهْ
وما أجمل تشبيه الفكرة بالغزالة في رشاقتها وسرعتها وعبورها إلى كناسها، وهو موضع اختفائها..
وكذلك هي النجوم (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)
.
إنّ من دلالات ضعف الفكر أن يتأمل المرء موضوعاً ما، فتنقدح له معانٍ وحكم وأسرار ومعارف، ثم يعود بعد ساعة محاولاً أن يستذكر أو يكيّف فلا يجد إلا سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء, حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
تعلمتُ من تكرار وقوع هذا الأمر :
أولاً : من مظاهر الكرم الإلهي نشر الحقائق والأفكار النافعة للناس، ولعلها بعدد ذرّات الكون أو تزيد، وهي في كل منعطف ووادٍ ولحظة, تتبرج للناس وتناديهم إليها، إنها مناجم هائلة لمن يهتدي إليها سبيلاً.
ثانياً : ومن كرمه تعالى رزق الناس العقول وسلطها على ما حولها مما هو في مقدورها ومن اختصاصها، تكتشف وتتعرف وتبدع (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43).
ولعل من إهدار العقل أن يظن أنه خُلق للحفظ والاستظهار والترديد فحسب، دون أن يضيف ويحلّل ويتأمل ويفكّ الرموز، أو أن يسيطر الجزع والخوف والتردد على المرء؛ فيحرمه لذة مشاهدة الجديد واقتباسه.
ثالثاً : اللغة والتعبير فضل لا يقل عن العقل (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة: من الآية31)، وقد يخذل البيان فكرة صحيحة، أو ينمق فكرة واهية، ولذا قال سبحانه : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً)(الأنعام: من الآية112).
رابعاً : خير الأفكار ما كان تثبيتاً لدين, أو إصلاحاً لدنيا، أو كانت غايته تحقيق المؤاخاة بين هذين الغرضين.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا
منقول منقول
سلمان العوده
******
زهرة