بسم الله الرحمن الرحيم
لقد تزايدت الصيحات التي تنادي بضرورة العودة إلى القرآن الكريم أو استدعاء القرآن إلى حياتنا. وقولنا تزايدت هذه الصيحات، يعني اننا نقرّ في مرحلة سابقة ان القرآن مغيّب عن حياتنا ممنوع عن ممارسة دوره في صياغة الإنسان وتوجيه الحياة. وقد لا نختلف على هذه المقولة بقدر ما نختلف على الطريقة التي يمكن من خلالها استدعاء القرآن الكريم وتمكينه من ممارسة دوره الذي انزله الله من أجله.
هل يتم ذلك كما يعتقد البعض عبر ضبط الشكل من احكام التجويد واشاعة مدارس تعليم اصول التلاوة وبرامج التحفيظ في الاذاعة والتلفزيون والاهتمام بتراث الاقدمين وما تركه السلف الصالح في مجال التفسير وعلوم القرآن الكريم؟
ام ان الحل يكمن في ان نقفز على التراث ونعطيه ظهورنا ونتّجه إلى القرآن الكريم مباشرة بلا حاجة إلى توسّط شيء في ذلك، فالقرآن خاطب البشر جميعاً ونحن بشر لا فرق بيننا وبين اسلافنا الذين اصبح فهمهم حجة علينا.
ام هو لا هذا ولا ذاك فلا نجمد على تراثنا فنتوقّف عنده ونعتبر القرآن حرم مقدّس لا تصيبه عقولنا ولا تدرك معانيه ولا تحيط بمقاصده وغاياته أفهامنا كما اعتقد البعض محتجاً بقول الامام علي «عليه السلام»: «القرآن جمال ذو وجوه» أو متوسلاً بمذهب الشافعي الذي جعل السنّة ناسخة للقرآن وليس العكس.
فلا هذا ولا القفز على كل هذا التراث والأخذ من القرآن مباشرة دون امتلاك الادوات اللازمة لفتح مغاليف كتاب الله وكشف اسراره. فلا نبالغ في تقديس تراث السلف الصالح ونعتبره مقدسا فنقع في ما حذّرنا القرآن منه وهو التقليد والاتباع وترك التدبّر في آيات الله وسننه في الكون. ولا نقفز على ذلك كله وندخل ساحة كتاب الله مباشرة دون العدة اللازمة فَنَزِل ونَضِل ونركب الشطط فلا نأوي إلى الرشاد.
كل هذه الآراء وغيرها معروضة للمناقشة في هذه المدارسة بين الاستاذ عمر عبيد حسنة والاستاذ الشيخ محمد الغزالي التي اعدها المعهد العالمي للفكر الاسلامي ونشرها في كتاب تحت عنوان: «كيف نتعامل مع القرآن؟».
يقول الشيخ الغزالي في المقدّمة:
«موقف المسلمين من القرآن الذي شُرِّفوا به يثير الدهشة، ومن عدّة قرون ودعوة القرآن مجمدة، ورسالة الإسلام كنهر جفّ مجراه أو بريق خمد سناه».
ويضيف قائلاً:
«حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المتعمّقة، ذلك ان المسلمين بعد القرون الاولى انصرف اهتمامهم إلى ناحية التلاوة وضبط مخارج الحروف واتقان الغنن والمدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاء اداء واحكاماً ـ نقصد احكام التلاوة ـ لكنّهم بالنسبة إلى تعاملهم مع كتابهم صنعوا شيئاً ربّما لم تصنعه الامم الاخرى.. فان كلمة «قرأت» عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها، تعني: ان رسالة جاءته أو كتاباً وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه.. فمن حيث الدلالة لا اجد فكاكاً بين الفهم والقراءة أو بين السماع والوعي».
ويرى الشيخ الغزالي ان الثقافة الإسلامية ابتعدت عن الينابيع الاصيلة من الكتاب والسنّة، وهو ينتقد مدارس التفسير القائمة حالياً، حيث يقول:
«يمكن حصر الثقافة الإسلامية في عدد من المدارس: فهناك مدرسة الاثريين أو اصحاب التفسير بالمأثور، وهي مدرسة يمثّلها الآن «ابن كثير» وتفسيره الشائع وان كان ابن جرير الطبري ارقى منه وتفسيره ادق، والذي يعيب هذه المدرسة انها ربطت تفسير الآيات بأحاديث اغلبها ضعيف، فكانت مصيدة حالت دون انطلاق الفكر القرآني إلى اهدافه الشاملة في التفسير، ووسيلة إلى شيوع الاحاديث الضعيفة التي بنى عليها المحدّثون فكرهم القرآني...
هناك التفسير الفقهي للقرآن، وهو تفسير طوّع الآيات لأحكام الفقهاء، وطريقتهم في الاستنباط ولم يهتم إلاّ بآيات الاحكام التشريعية، واقتصر في ذلك على الحكم الشرعي دون المقاصد الاخرى وهذا فيه شيء يستدعي الاستدراك.
وهناك التفسير الكلامي، وانموذجه «الرازي» مثلاً في «التفسير الكبير»، وهو تفسير ينبغي ان نأخذ منه بطرف وندع اطرافاً اخرى لأنها خرجت بالتفسير عن مجاله.
وهناك التفسير البياني وهو مثل تفسير «الزمخشري» وأبو السعود والبيضاوي وقد رأيت عدداً من المفسّرين إلى جانب مفسّرين آخرين من مدارس اخرى كانوا بلاء على الاُمّة الإسلامية على الرغم من انهم خدموا البلاغة العربية وخدموا التفسير البياني للقرآن أجلّ خدمة... لكن حملت تفاسيرهم إلى جانب ذلك اساءات كبيرة للفكر القرآني».
ويدعو الشيخ الغزالي في هذه المدارسة إلى رؤية قرآنية شاملة، ويؤكد على ضرورة النظر في الآيات القرآنية من خلال تلك النظرة، لأنّ القرآن، كما يقول الشيخ: «ليس كتابا مقسّما على قضايا معيّنة، ثم تنقطع فيه الرؤى الشاملة، بل هو يعرض الكون وهو يبني العقيدة ويعرض الكون وهو يربّي الخلق ويمزج بين الجميع بطريقة مدهشة. فالنظر في الكون والواقع والتاريخ يقود إلى الايمان، ويؤصّل التوحيد ويبني الخلق فقوله تعالى: «يا أيها الناس اعبدوا ربّكم» «البقرة: 21» توحيد، فيه أمر للناس بالعود لله.
ويؤكد الشيخ الغزالي على ضرورة النظر في الآيات الكونية في القرآن الكريم ويدعو إلى احياء المدارس التي اُهيل عليها التراب والتي انطلقت من الرؤية القرآنية للسنن الكونية كمدرسة جابر بن حيان والخوارزمي وابن الهيثم. وهو ينعى على المسلمين اهمالهم للكون وسننه، ويرى ان الاُمّة اكلتها التقاليد التي صنعتها لنفسها ووضعت فيها قيوداً على مسالكها فهزمت القيم الدينية أمامها. ثم يرى ان الحضارة الغربية قد احترمت الكون فاكتشفت اسراره واحترمت الحياة الدنيا فأخذت من قوانينها وانتفعت من اسرارها.
وترى المدرسة ان الاُمّة الإسلامية لا زالت تئنّ من فلسفة الجبر، الفلسفة التي عطّلت قانون السببية الذي نبّه إليه القرآن تعطيلاً كاملاً فساد التواكل وانطفأت الفاعلية حتى اننا لم نعد نجد حاجة لدراسة اعظم النكسات في حياتنا، يقول الشيخ الغزالي:
«انّ الاُمّة الإسلامية اصبحت تتلقى اعظم النكسات والهزائم دون وعي ودون استفادة ودون البحث في اسباب النصر وعوامل الهزيمة، وران عليها هذا حتى في كتابة التاريخ، ثم يتساءل: لماذا يكون التعليق على مأساة الأندلس هكذا:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان***فلا يغرّ لطيب العيش انسان
ويغيب تعليق العلماء والاُمراء والساسة والقادة».
تنتقد المدارسة في جانب منها المناهج التجزيئية ـ إن صح التعبير 2 ـ في فهم القرآن، وترى انها هي المسؤولة عن تشوه الفكر الاسلامي وتضخم جوانب منه على حساب جوانب أخرى.
فلماذا كان هذا الامتداد مثلاً في القضية الفقهية فقط، واهملت بقية القضايا القرآنية في الكتاب والسنة. فقد تضخّم الفقه حتى تحول في العصور الأخيرة إلى تصوير أحكام جزئية لا حصرلها، وتضخم علم الحديث فدخلت فيه عشرات الالوف من الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة وأخذت طريقها إلى الثقافة الاسلامية. بينما انكمشت علوم أرى حتى زالت عن الوجود أو كادت. فأين علم الاجتماع وأين علم النفس وهكذا العلوم الأخرى.
وهذا منهج غريب لم يعرف القرآن الكريم هذه التجزيئية أبداً ولم يقرّها في آية من آياته حتى شبه الشيخ الغزالي ـ في هذه الدراسة ـ القرآن الكريم بالكون الكبير الذي نعيش فيه. بل اعتبر ـ في وصف رائع له ـ القرآن الكريم كوناً معنوياً يضارع الكون المادي الذي خلقه الله سبحانه، فتراه يُقسم بعظمة أحد الكونين على عظمة الكون الآخر. قال تعالى: «فلا اُقسم بمواقع النجوم. وانّه لقسم لو تعلمون عظيم. انّه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلاّ المطهرون. تنزيل من ربّ العالمين» (الواقعة: 75 ـ 80).
وناقشت المدارسة فكرة التدرج، ورأت انها فكرة عامة لا تخصّ الجانب التشريعي فحسب، بل هناك تدرج في العبادة والدعوة، وهي ترى امكانية التدرج في التطبيق أو التنزيل على الواقع في عصرنا الحاضر، فوصول الأحكام إلى صيغتها النهائية لا يعني انتهاء فكرة التدرج.
ففي الوقت الذي يبقى فيه حكم الحلال والحرام ثابتاً لا تناله يد التبديل والتغيير، هناك فُسحة في مجال التطبيق وتنزيل الحكم على الواقع، ويضرب الشيخ الغزالي لذلك مثلاً فيقول: «لابد من الجزم ان الخمر رذيلة وشربها مبعد عن طبيعة الإسلام وطبيعة الطاعة لله، لكن في معاملتي للشاربين لازم ان أكون هيّناً ليّناً، فلا أقسو.. أتدرج هنا في تطبيق الأحكام كما تدرّجت في الأوّل.. أنا ممكن أن أمشي في العقوبات هنا بالطريقة التي مشى بها الأوّلون: أخوّف أوّلاً واُشدّد أخيراً».
وقد أيّد الشيخ الغزالي ما انتهى إليه الشيخ رشيد رضا والخضري في نفي النسخ في القرآن الكريم بالمعنى الشائع للنسخ، أي إبطال حكم آية بآية أخرى، حيث قال: ليس في القرآن أبداً آية يمكن ان يُقال انها عُطلّت عن العمل وحكم عليها بالموت.. هذا باطل، كل آية يمكن أن تعمل، لكن الحكيم هو الذي يعرف الظروف التي يمكن أن تعمل فيه الآية وبذلك توزع آيات على القرآن الكريم على أحوال البشر بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويرفض المتحاورون (عمر عبيد حسنة والشيخ الغزالي) أن تبنى العقائد على أساس خبر الآحاد، قال الغزالي في هذه المدارسة:
«القول بأنّ أحاديث الآحاد تبني العقائد وتفيد اليقين قول غير صحيح، وما يقوله بعضهم في هذا مرفوض. ولا يمكن بناء عقيدة على أحاديث الآحاد. خاصة وانّ العقائد قد تكفل بها القرآن، وليست ـ عندنا ـ من صنع المجامع كما هي في المسيحية، ولا من مرويات أحادية اطلاقاً».
ولا يرى الشيخ الغزالي كما أوضح في هذا الحوار بأساً في استعارة بعض المصطلحات، إذا كان ما منها بد. يقول:
«قد يقع انني استعير عناوين عند القوم كالاشتراكية، أو الديمقراطية أو ما إليها.. والحقيقة ان المستعير قد يكون ما منها بد عندما يكون التقصير الاسلامي واضحاً أو فاضحاً في مجال معين، وتبقى مصطلحات لها مفهومات ودلالات معينة، لابد من الانتباه لها.
فإذا قلنا: ان الإسلام دين ديمقراطي، فكلمة ديمقراطية يونانية الأصل، والمحور الذي يدور عليه التطبيق هناك هو ضمان المصلحة بتحكيم أكبر قدر ممكن من اُولي الألباب، واشراكهم في اتخاذ القرار، ومنع الاستبداد الفردي، ومنع استطالة واحد على الناس بفضل مال أو غيره... فإذا كنا نحن لم نصل في اجتهاداتنا الإسلامية لوضع برامج ووسائل لتطبيق الشورى، بل عندنا للأسف من يقول ان الشورى غير ملزمة للحاكم، فان المصطلحات التي تجيء من الخارج ستنتصر، ما دُمنا نحن ضد الفطرة وضد الأصل الذي هو عندنا وهو الشورى».
وينتقل الحوار إلى السنن التي تحكم الاُمم والمجتمعات والقوانين التي تسيّر التاريخ، فهناك سنة التداول الحضاري وسنة المدافعة والتسخير والأجل والتدرج، وهي سنن يقرها الإسلام ويرشد العقول اليها، وقد راعاها القرآن ولفت اليها القول: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيّام نداولها بين الناس...» (آل عمران: 193 ـ 140).
يقول الشيخ الغزالي في حواره:
«عند النظر إلى تواريخ العالم في الشرق، أجد ان الامبراطوريات والدول كأنها تشبه البشر. لانّ لها أعماراً تنتهي اليها. صحيح ان الحضارة ظهرت في الشرق الأوسط، ويبدو ان هذه هو السر في أغلب النبوّات في الشرق الأوسط، لان ازدهار الملكات الإنسانيّة كانت في حضارة مصر والشام والعراق وجنوب أوروبا في اليونان وايطاليا، أي البحر المتوسط تقريباً.. كانت في أطراف العالم، كانها كانت محلية أو ما رأيت انها بلغت في النمو العقلي ما بلغته حضارة الشرق الأوسط.. هذا كله نوع من الحدس.
لكن الذي ظهر لي ان الحضارة أشرقت من مصر ثم انطفأت.. وأشرقت من اليونان ثم انطفأت.. وأشرقت من الرومان ثم أنطفأت.. وأشرقت من بلاد العرب بالسلام ثم خبت».
ثم يقول:
«انا أتصور ان هناك حضارة دينية يكون الاسلم لبابها، هي التي ترث العالم. وفي ظني ان هذه الحضارة الإسلامية ستعم العالم قبل ان ينقضي تاريخ الدنيا».
وينعى الشيخ على الحكم في اضطراب الامور وتدهور الأحوال، ويرى انّه السبب في ذلك في اغلب الأحيان، إذ يقول:
«هذه الاُمة تمرض ولا تموت، والعلل التي تصيبها يجيء أغلبها من اضطراب الحكم، فالعطب يكون دائماً من القشرة التي تغلّف العود وهي الحكم.. فساد الحكم قشرة في النظام الاسلامي، لأن الإسلام ليس حزباً سياسياً، انما هو مجموعة قيم وتعاليم، قد يكون الحكم حزاماً يشد التعاليم، لكن بقية التعاليم قائمة مع انقطاع الحزام.. ويظهر هذا جلياً مع سقوط بغداد، فان التتار دخلوا في الإسلام رغم محاولات أوروبا العصبية والشديدة في أن تجر التتار اليها، وان تجعل منها حرباً صليبية، بل كانت هي فعلا كذلك، وتدرس في تاريخ أوروبا على انها حملة تتارية صليبية معاً، إلاّ أنّ الاندلس حقيقة تعرضت لحملة إبادة تُشبه القنبلة الذرية، لأن الحقد الصليبي تجمع كله فيما يُسمى بمحاكم التفتيش، فكانت التصفية الجسدية ـ بتعبير العصر ـ هي الأساس في محو الإسلام من اسبانيا.. وكان ينبغي أن يأخذوا من هذه عبرة.. والأمر نفسه حدث في يوغسلافيا».
ويتحول الحوار إلى سنة التدافع، فيرى ان التحدّي والاستفزاز ـ الذي يعتبره علماء الحضارة أمثال توينبي ـ هو السبب الهام في الاستجابة والنهوض الحضاري، يرى ذلك فيقع ضمن مساحة سنة التدافع، ويبحث المتحاوران عن وجه آخر لهذه السنة، فيجدون ان التناقض فيما بين القوى العالمية التي تحمل العداوة للمسلمين الذي قد يحملها أحياناً على الاقتتال والمواجهة انما هو نوع من التدافع الذي يحكي عن القرآن الكريم وما على المسلمين في حالة ضعفهم وعدم قدرتهم الا ان يستثمروا التناقض القائم فيظفروا بحق الحياة ثم يستردوا ما فقدوا من مساحة مكانية في الاستعمار، وما أصابهم من نكبات سياسية واجتماعية كثيرة، غير ان الأمر يحتاج إلى شيئين كما يقول الشيخ الغزالي: يحتاج إلى اخلاص عميق للعقيدة والمبدأ، وذكاء عميق أيضاً ليفتق الحيل حتى يصل إلى ما يريد، ولعل اليهود استطاعوا ان يستفيدوا من سنة المدافعة أكثر منّا.
وتحدث الشيخ الغزالي عن التسخير فقال:
«ان تقسيم الناس إلى طبقات من السنن التسخيرية، فهناك مهندس وهناك عامل، ولابد أن يسخر المهندس والعامل، لأن المهندس كأنه يمثل الدماغ، والعامل كأنه الساعد في يده. القيادة والجند، القائد يبقى في مكان يُصدر منه الأوامر ولا يتلقى الضربات وانما يتلقاها الجند، والمعارك لا تدور إلاّ بهذا. فهذه سنن تسخيرية».
ويلفت الاُستاذ عمر حسنة النظر إلى جانب آخر من التسخير فيقول:
«ان الله سبحانه وتعالى حينما سخّر لنا البحر والأرض والشمس، لفت نظرنا لأهمية اكتشاف قوانين التسخير الكونية، ولست أقصد الاجتماعية بين الناس. فمعرفتنا لهذه القوانين التي تنتظمها هي التي تمكننا من القدرة على تسخيرها. أي ان التقدم العلمي لا يمكن ان يتحقق إلاّ بفهم قوانين التسخير».
ويعود الشيخ الغزالي لسن التدرج التي سبق ان ألمح اليها، فيضرب لذلك مثلاً بالربا، فيقول:
«الربا نفسه لم يتم تحريمه إلاّ في حجة الوداع تقريباً، لأن آيات سورة البقر من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وألحق بموضوع الربا موضوع الزكاة في سورة البقرة.. وكان أول ما نزل سورة الروم: «وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاُولئك هم المضعفون» (الروم: 39).
ثم وجدنا حديثاً عن الربا في سورة النساء يتحدث عن أهل الكتاب: «بظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه» (النساء: 160 ـ 161)، فكان هذا اشارة إلى أن الربا محرّم.
ثم وجدنا ما نزل في سورة آل عمران: «لا تأكلوا الربا أضعافا مُضاعفة» (آل عمران: 130)، ثم جاء بعد ذلك ما نزل في سورة البقرة وكان حاسماً: «يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربّا إن كنتم مؤمنين» (البقرة: 278)».
ويأخذ الاُستاذ عمر عبيد حسنة في هذه المدارسة عن بعض الدّعاة استعجالهم النتائج وعدم التفاتهم إلى سنة الأجل التي عبرت عن ارتباط الأشياء بآجالها، فالله سبحانه وتعالى ـ يقول الشيخ الغزالي ـ قادر على أن يخلق الجنين بدل تسعة أشهر في تسعة أيام، في يوم واحد، في لحظة.. وقادر على أن يجعل الحبوب أو (حب الحصيد) كما ذكر بدل ان يحتاج إلى خمسة أو ستة شهور كما في القمح وشهرين أو ثلاثة في الذرة، كان من الممكن ان يقع هذا فجأة ودفعة واحدة، لكنه سبحانه، كما خلق الكون في عدة أيّام. جعل التدرج هنا في أزمنة..».
ويفرّق الاُستاذ عبيد حسنة بين الاقدار والآجال، فيقول:
«ان الأقدار قد تكون أقرب إلى النوع والصفة، والآجال قد تكون أقرب إلى الشروط والعمر الزمني المطلوب لانضاج الفكرة بعد مراحل تربوية متتابعة».
وأخيراً ينتهي المتحاوران إلى ان اكتشاف هذه السنن بما فيها السنن الالهية في الأنفس والآفاق أمر لابد منه للشهود الحضاري (عمارة الأرض والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني). واكتشاف السنن هو الذي مكن العالم المتقدّم من التقدّم والتحكّم. وغفلة المسلمين عنها كانت سبب الانحطاط والسقوط والتخلّف، وأصبحوا مسخَّرين بدل مسخِّرين.
ويتفق المتحاوران على ان المسلمين لا يعانون من أزمة منهج كما هو شائع الآن، وانما يعانون من أزمة فكر، وتعامل وفهم لهذا المنهج.
ولا يكتم الشيخ الغزالي ألمه من الأوضاع السياسية وينعى على الاُمة تخاذلها في أداء دورها وانصرافها عن همومها العظام إلى هموم صغار، ثم يطلق نداءً ملتاعاً إلى ضرورة ايجاد ضمانات للمفكرين والفقهاء المصلحين الذين يجازفون فيكسرون حاجز الصمت وحاجز التقليد الأعمى، وحاجز الكسل والخمول، يقول:
«المطلوب اليوم: وجود ضمانات شعبية أو عقلية أو مادية أو قانونية... الخ للعلماء والمفكرين والفقهاء. ذلك انّي أرى ان عقلاء هذه الاُمة يُظلمون واحداً بعد الآخر، ويعيشون مشردين، وفي العصر الذي أنا منه الآن، رأيت خيرة قادة الفكر الاسلامي، أما ماتوا مظلومين، أو مضطهدين، أو مضيّقاً عليهم الخناق، أو أن ظفروا بعيش هادىء، فلأسباب غير عادية، استثنائية. كأن الأساس هو: ان الإنسان طالما كان من فقهاء الإسلام ومفكريه، يضرب حوله نطاق، فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، أي يجب ان يبقى مقطوع الاتصال بالناس، وإذا حدث أن حاول أن ينطلق هنا وهناك، يُعتقل، يُسجن..».
ويضيف الشيخ الغزالي قائلاً:
«كل ما رأينا من أخواننا الذين لهم فكر، يريدون العمل هنا وهناك، لا يعاملون إلاّ معاملة قطاع الطرق».
ولا يبرىء الشيخ الغزالي الاُمة من الذنب والتقصير في وصول الاُمور إلى هذه الحال، حيث يقول:
«والاُمة مسؤولة عن هذا.. وما قيمة أن يُقال ان الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد. ما يعني ان الشعب يحبني إذا كان سيتركني اُقتل؟!».
ويطلق الشيخ زفرة من الأعماق، فيقول:
«إذا كانت وظيفة القلم، أو الرأي ان يخدم أصحاب السلطة، فان الاُمة الإسلامية ستكون آخر الاُمم. عندنا أزمة فهم.. عندنا أزمة فقه.. عندنا مع هذا وذاك أزمة فكر.. والمحزن ان الذين يملكون الفكر يملكهم ما يملكون السيف».
ويعود الحوار إلى أجواء الفكر والثقافة من جديد، فيتفق المتحاوران ان هناك خللاً فكرياً ثقافياً، ويرى الشيخ الغزالي ان الثقافة الإسلامية قد أصابها شيء من الاعوجاج، فمن ناحية التربية والتصور، انسحب الناس من الحياة.. ورأوا ان المجتمع فاسد وهربوا منه بدل أن يغيّروه..».
وإذا نظرنا في فقه المعاملات والعبادات ـ يقول الشيخ ـ أنا لا أعرف اُمّة أطالت الوقت في الفروع الفقهية كاُمّتنا... الوضوء مثلاً، يمكن ان يتعلم في دقيقتين، فما الذي يجعل فيه مئات الصفحات والكتب. بل المجلدات، وتختلف المذاهب فيه؟ هذا شيء عجب.
وفي حديثه عن الفقه والفقهاء ينتقد الشيخ الغزالي ابن تيمية ويُبدي استغرابه من شيئين عند ابن تيمية وكذلك تلميذه ابن القيم.
الأول: انّه أنكر المجاز في القرآن، وهو أمر بديهي في القرآن.
الثاني: انهما كادا ان يقعا في التجسيد.
ويحذّر المتحاوران من أن يتحول التراث الذي يشكل مفاتيح مساعدة على فهم القرآن إلى حاجز وعائق بين المسلمين وبين النهل من النص الأصلي.
يقول الشيخ الغزالي: ان الاُمة السلامية حدث فيها للعجب، حيث تركت الكتاب للسنة ثم تركت السنة لأقوال الأئمة... ثم تركت أقوال الأئمة لمؤلّفي المتون.
ولكنه يلفت الانتباه إلى خطر آخر أشد من هذا، ذلك هو القفز من فوق التراث ومحاولة الاتصال بالكتّاب، وتقرير الأحكام دون التحقيق بالشروط المطلوبة لذلك، وبهذه المناسبة يشن الشيخ الغزالي هجوماً قويا على المستشرقين ويستخف باُولئك الذين يتبعونهم دونما عقل، يقول:
«أحياناً كنت عندما اُناقش المستشرقين اتكلم بكلام فيه حدة واحتقار شديد، وأنا اعتمد هذا.. لماذا؟ لأني وجدت بعض الناس ينظر اليهم كأنهم شيوخ في محاريب العلم، وهؤلاء أفاكون، يشتغلون في وزارات الاستعمار لمحاربة الإسلام فقلت: لابد من تمزيق هذاالقناع وكشف نصوص العلم للناس على حقيقتها».
ويوجه المتحاوران دعوة مشتركة التى تأسيس علوم اجتماعية وتدوينها على أساس الاسلم من خلال النظر في القرآن الكريم، حيث يقول الشيخ الغزالي:
«الأمر هام، ويجب ان تقوم به جامعات اسلامية الآن، ويجب ان تختار هذه الجامعات رجالاًلهم خبرة بالعلوم الأجنبية، وفي الوقت نفسه لهم اطّلاع على التراث الاسلامي، ومعهم بعض الذين لهم خبرات قرآنية ودراسات قرآنية معمقة. كفريق عمل ومن ثمّ فالكل يمكن ان يطلعوا لنا بعدة علوم مرّة واحدة: علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ... الرسول كان يعلم المغازي كما يعلم السور من القرآن لكي يربط الاُمّة».
وعن السبب في اختيار العرب ليكونوا مادة الإسلام الاُولى ولتكون لغة القرآن هي اللغة العربية وانّه قرآن عربي، يؤكّد المتحاوران المقصود هنا عروبة اللسان لا عروبة الجنس والقوم. ويرى الشيخ الغزالي انّه كان لابد أن تكون الرسالة في هذا الجنس، يقول في تعليل ذلك: لأنّه ما كان يمكن ان تكون في الفرس ولا في الروم، لأن السلطة المركزية الموجودة في فارس والروم كانت ستلقي القبض على مدعي الرسالة وتنتهي منه في يوم. لكن الحياة العربية ـ يقول الشيخ ـ حياة من لون خاص، فقد وفرت لأصحابها من الحرية، ما تعرفه الآن الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا. أمكن ان ينتعش الفرد في هذه الأيام انتعاشاً يحس بشخصيته، وبقدرته، وباقتداره المادي والاُخروي دون ان يكون هناك حد لهذا. فالقبائل العربية كفلت لأبنائها بهذا التعصب أو التجمع ما جعل كل واحد منهم يفعل ما يريد.
وربما احتاجت الرسالات العظيمة إلى خصائص قد توفرت في العربي، فهو معتد بنفسه قبل المؤونة. يقول التاريخ: ان الجيش الفارسي وكذلك الرومي كانت وراءه عربات الأطعمة.. أما العربي، فيكفيه ان يضع في جيبه تمرات ويُقتل.. لم يألفوا ذل الخضوع لسلطة مطلقة. الانحناء للملوك، والفساد الناشىء عن ترف والانحلال والرّخاوة، كل ذلك لم يكن موجوداً عند العرب.
يضيف الاستاذ عمر عبيد حسنة إلى ذلك انّه كانت هناك ـ في العرب ـ بعض التوجهات للأفكار المثالية: كوجود الحنفاء في ذلك المجتمع وتأبيهم عن عبادة الأصنام وتفكيرهم في بعض الفضائل الاجتماعية مثل: اتفاقهم في حلف الفضول على أن لا يبقى مظلوم في مكة إلاّ وترد له مظلمته، ثم شعورهم ان التنزه عن الدنيا مطلوب.
لكن هذا لا يعني ان العرب كانوا في مستوى من العطاء والعبقرية بحيث سيصلوا إلى ما وصلوا إليه حتى لو لم ينزل عليهم القرآن فذلك أمر مرفوض. يقول الشيخ الغزالي: «ان العرب ـ لولا الإسلام ـ كان يمكن ان يبقوا على ما كانوا عليه طوال حياتهم».
ويثير الحوار نقطة مهمة يحاول المتحاوران استجلاءها واعطاء الفهم الناضج لها. تلك هي مسألة النهي عن التفسير بالرأي التي ربما أدى التطرف في الالتزام بها إلى الجمود على المأثور وعدم تجاوزه بأي حال حتى لو كان هذا المأثور ضعيفاً وربما اعتبر ذلك نقضاً لخلود القرآن وعدم تجاوزه بأي حال حتى لو كان هذا المأثور ضعيفاً وربما اعتبر ذلك نقضاً لخلود القرآن ومقتضى التدبر فيه. ولكن الشيخ الغزالي يعرب عن اعتقاده ان الرأي الذي نهينا عن تفسير القرآن به هو الهوى.. وهو أن يكون الإنسان سيء النية أو متجهاً إلى مأرب من مآرب فيتلو القرآن، ويلوي عنقه كي يخدم هذه المأرب أو هذا الرأي.. وهذا هو المحرم شرعاً، لا أن يكون للانسان رأي في تفسير القرآن مع ضوابط اللغة التي لا يمكن اختراقها. لأننا ـ يقول الشيخ الغزالي ـ لا نريد أن ندخل في شطحات المتصوّفين التي ليس لها ضابط.
المهم: انّه يمكن أن نفهم القرآن فهماً اجتماعياً وسياسياً في حدود ضوابط اللغة. ويضيف قائلاً: ان التفسير بالرأي نوع من التفاسير كالتفسير الأثري والفقهي والكلامي والبياني والصوفي والعلمي.. ولعل التفسير الذي بدأ به الشيخ رشيد رضا نوع من التفسير الذي يجمع أنواعاً من الآراء.. فهو مدرسة متعدّدة المناهج في فهم القرآن.. يقول: فأنا أرى ان التفسير بالرأي لم يتوقف، بل العكس، فقط طغى التفسير بالرأي على التفسير الأثري، وهناك عدد كبير من الناس يرى ان الاقتصار على التفسير الأثري يقيّد الآيات.. وأكاد أقول: ان التفسير الأثري أخضع الآيات للأحاديث.
ثم يشدد الغزالي على ان القرآن كتاب عربي، يخضع للأساليب العربية في الفهم، ولا نسمح أبداً بالشطحات.. لابد ان تبقى الكلمة هي الكلمة.. لابد ان يفهم القرآن من خلال معهود العرب في الخطاب، فكما تشرح أي قصيدة شعرية: الكلمات، والمجاز، والاستعارة والتشبيه والكناية، كل هذا يبقى في نطاق االصطلاحات العربية لا نخرج عليها، فمعنى انّ القرآن عربي: هو انّه يخضع للفهم بالاسلوب العربي.
وفي الوقت الذي يشدد فيه المتحاوران على ضرورة التزام القواعد الصحيحة في التفسير والتقيد بالضوابط التي تعصم المفسّر من الزّلل، فانهما أكّدا على ضرورة الامتداد مع القرآن وإفساح المجال أمامه لكي يستوعب الحياة ويحتضن الكون بأكمله ويمتد مع الزمن، فان ذلك مقتضى خلوده، واعتبرا ان مقولة: لا يمكن أن يتأتّى للفهوم القادمة ما تأتّى لفهم القرون الاُولى الذين عاصروا التنزيل، لا يمكن ان تقبل بأخلاقها «فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، فان العصر الأول ـ يقول الشيخ الغزالي ـ وقف فيه ـ أي القرآن ـ عند حد، وان العصور المتأخرة لابد ان تزيد ذلك لأن القرآن تكلم مرتين عن المستقبل وقال في آخر سورة النمل:
«وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربُّك بغافل عمّا تعملون»(93)، وفي آخر سورة فصلت: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انّه الحق أو لم يكف بربّك انّه على كل شيء شهيد»(53)، فهذه الاراءة التي تكون في الأنفس والآفاق مع الزمن المقبل وليست مع الزمن الماضي
ويلاحظ الشيخ الغزالي على العرب انهم لم يخدموا عالمية القرآن كما يجب.. ويرى ان عالمية القرآن خدمها التجار والسياح وبعض الذين يعبدون الله، ويقول:
«خدمة القرآن من الناحية العالمية جاءت شعبية ولم تجيء رسمية، وهذا خطأ، بل حدث ما هو عكس ذلك، حيث قام المسؤولين الحكوميين باستيراد ما عند الآخرين قبل أن يصدّروا ما لديهم للآخرين».
ويختم الشيخ الغزالي كلامه قائلاً: لابد ان تتلاقى تيارات الفكر العالمي عندنا.. إذا لم يكن تيارنا قوياً، فنحن نستحقّ ما يصيبنا. الإسلام إنما يعلو ـ ولا يُعلى عليه ـ ببقائه إسلاماً.. فإذا تحول الإسلام ـ وهو دين العقل ـ إلى تقليد أعمى في أرضه، فانه لا يسمى اسلاماً. لابد ان تكون أصول الإسلام القرآ ية يافعة في مجتمعه، وأن تمتد ثمرته لتكون في آفاق الأرض كلها.
ويوجه الشيخ دعوة ملحة للمسلمين جميعاً لأن يعودوا إلى القرآن الكريم ليكون محور حياتهم، ويجب أن ينظروا إليه كلا وجزءاً على انّه دعامة اُمّة.. هو عقلها المفكّر.. هو ضميرها الصاحي.. هو علمها المرفوع
لقد تزايدت الصيحات التي تنادي بضرورة العودة إلى القرآن الكريم أو استدعاء القرآن إلى حياتنا. وقولنا تزايدت هذه الصيحات، يعني اننا نقرّ في مرحلة سابقة ان القرآن مغيّب عن حياتنا ممنوع عن ممارسة دوره في صياغة الإنسان وتوجيه الحياة. وقد لا نختلف على هذه المقولة بقدر ما نختلف على الطريقة التي يمكن من خلالها استدعاء القرآن الكريم وتمكينه من ممارسة دوره الذي انزله الله من أجله.
هل يتم ذلك كما يعتقد البعض عبر ضبط الشكل من احكام التجويد واشاعة مدارس تعليم اصول التلاوة وبرامج التحفيظ في الاذاعة والتلفزيون والاهتمام بتراث الاقدمين وما تركه السلف الصالح في مجال التفسير وعلوم القرآن الكريم؟
ام ان الحل يكمن في ان نقفز على التراث ونعطيه ظهورنا ونتّجه إلى القرآن الكريم مباشرة بلا حاجة إلى توسّط شيء في ذلك، فالقرآن خاطب البشر جميعاً ونحن بشر لا فرق بيننا وبين اسلافنا الذين اصبح فهمهم حجة علينا.
ام هو لا هذا ولا ذاك فلا نجمد على تراثنا فنتوقّف عنده ونعتبر القرآن حرم مقدّس لا تصيبه عقولنا ولا تدرك معانيه ولا تحيط بمقاصده وغاياته أفهامنا كما اعتقد البعض محتجاً بقول الامام علي «عليه السلام»: «القرآن جمال ذو وجوه» أو متوسلاً بمذهب الشافعي الذي جعل السنّة ناسخة للقرآن وليس العكس.
فلا هذا ولا القفز على كل هذا التراث والأخذ من القرآن مباشرة دون امتلاك الادوات اللازمة لفتح مغاليف كتاب الله وكشف اسراره. فلا نبالغ في تقديس تراث السلف الصالح ونعتبره مقدسا فنقع في ما حذّرنا القرآن منه وهو التقليد والاتباع وترك التدبّر في آيات الله وسننه في الكون. ولا نقفز على ذلك كله وندخل ساحة كتاب الله مباشرة دون العدة اللازمة فَنَزِل ونَضِل ونركب الشطط فلا نأوي إلى الرشاد.
كل هذه الآراء وغيرها معروضة للمناقشة في هذه المدارسة بين الاستاذ عمر عبيد حسنة والاستاذ الشيخ محمد الغزالي التي اعدها المعهد العالمي للفكر الاسلامي ونشرها في كتاب تحت عنوان: «كيف نتعامل مع القرآن؟».
يقول الشيخ الغزالي في المقدّمة:
«موقف المسلمين من القرآن الذي شُرِّفوا به يثير الدهشة، ومن عدّة قرون ودعوة القرآن مجمدة، ورسالة الإسلام كنهر جفّ مجراه أو بريق خمد سناه».
ويضيف قائلاً:
«حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المتعمّقة، ذلك ان المسلمين بعد القرون الاولى انصرف اهتمامهم إلى ناحية التلاوة وضبط مخارج الحروف واتقان الغنن والمدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاء اداء واحكاماً ـ نقصد احكام التلاوة ـ لكنّهم بالنسبة إلى تعاملهم مع كتابهم صنعوا شيئاً ربّما لم تصنعه الامم الاخرى.. فان كلمة «قرأت» عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها، تعني: ان رسالة جاءته أو كتاباً وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه.. فمن حيث الدلالة لا اجد فكاكاً بين الفهم والقراءة أو بين السماع والوعي».
ويرى الشيخ الغزالي ان الثقافة الإسلامية ابتعدت عن الينابيع الاصيلة من الكتاب والسنّة، وهو ينتقد مدارس التفسير القائمة حالياً، حيث يقول:
«يمكن حصر الثقافة الإسلامية في عدد من المدارس: فهناك مدرسة الاثريين أو اصحاب التفسير بالمأثور، وهي مدرسة يمثّلها الآن «ابن كثير» وتفسيره الشائع وان كان ابن جرير الطبري ارقى منه وتفسيره ادق، والذي يعيب هذه المدرسة انها ربطت تفسير الآيات بأحاديث اغلبها ضعيف، فكانت مصيدة حالت دون انطلاق الفكر القرآني إلى اهدافه الشاملة في التفسير، ووسيلة إلى شيوع الاحاديث الضعيفة التي بنى عليها المحدّثون فكرهم القرآني...
هناك التفسير الفقهي للقرآن، وهو تفسير طوّع الآيات لأحكام الفقهاء، وطريقتهم في الاستنباط ولم يهتم إلاّ بآيات الاحكام التشريعية، واقتصر في ذلك على الحكم الشرعي دون المقاصد الاخرى وهذا فيه شيء يستدعي الاستدراك.
وهناك التفسير الكلامي، وانموذجه «الرازي» مثلاً في «التفسير الكبير»، وهو تفسير ينبغي ان نأخذ منه بطرف وندع اطرافاً اخرى لأنها خرجت بالتفسير عن مجاله.
وهناك التفسير البياني وهو مثل تفسير «الزمخشري» وأبو السعود والبيضاوي وقد رأيت عدداً من المفسّرين إلى جانب مفسّرين آخرين من مدارس اخرى كانوا بلاء على الاُمّة الإسلامية على الرغم من انهم خدموا البلاغة العربية وخدموا التفسير البياني للقرآن أجلّ خدمة... لكن حملت تفاسيرهم إلى جانب ذلك اساءات كبيرة للفكر القرآني».
ويدعو الشيخ الغزالي في هذه المدارسة إلى رؤية قرآنية شاملة، ويؤكد على ضرورة النظر في الآيات القرآنية من خلال تلك النظرة، لأنّ القرآن، كما يقول الشيخ: «ليس كتابا مقسّما على قضايا معيّنة، ثم تنقطع فيه الرؤى الشاملة، بل هو يعرض الكون وهو يبني العقيدة ويعرض الكون وهو يربّي الخلق ويمزج بين الجميع بطريقة مدهشة. فالنظر في الكون والواقع والتاريخ يقود إلى الايمان، ويؤصّل التوحيد ويبني الخلق فقوله تعالى: «يا أيها الناس اعبدوا ربّكم» «البقرة: 21» توحيد، فيه أمر للناس بالعود لله.
ويؤكد الشيخ الغزالي على ضرورة النظر في الآيات الكونية في القرآن الكريم ويدعو إلى احياء المدارس التي اُهيل عليها التراب والتي انطلقت من الرؤية القرآنية للسنن الكونية كمدرسة جابر بن حيان والخوارزمي وابن الهيثم. وهو ينعى على المسلمين اهمالهم للكون وسننه، ويرى ان الاُمّة اكلتها التقاليد التي صنعتها لنفسها ووضعت فيها قيوداً على مسالكها فهزمت القيم الدينية أمامها. ثم يرى ان الحضارة الغربية قد احترمت الكون فاكتشفت اسراره واحترمت الحياة الدنيا فأخذت من قوانينها وانتفعت من اسرارها.
وترى المدرسة ان الاُمّة الإسلامية لا زالت تئنّ من فلسفة الجبر، الفلسفة التي عطّلت قانون السببية الذي نبّه إليه القرآن تعطيلاً كاملاً فساد التواكل وانطفأت الفاعلية حتى اننا لم نعد نجد حاجة لدراسة اعظم النكسات في حياتنا، يقول الشيخ الغزالي:
«انّ الاُمّة الإسلامية اصبحت تتلقى اعظم النكسات والهزائم دون وعي ودون استفادة ودون البحث في اسباب النصر وعوامل الهزيمة، وران عليها هذا حتى في كتابة التاريخ، ثم يتساءل: لماذا يكون التعليق على مأساة الأندلس هكذا:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان***فلا يغرّ لطيب العيش انسان
ويغيب تعليق العلماء والاُمراء والساسة والقادة».
تنتقد المدارسة في جانب منها المناهج التجزيئية ـ إن صح التعبير 2 ـ في فهم القرآن، وترى انها هي المسؤولة عن تشوه الفكر الاسلامي وتضخم جوانب منه على حساب جوانب أخرى.
فلماذا كان هذا الامتداد مثلاً في القضية الفقهية فقط، واهملت بقية القضايا القرآنية في الكتاب والسنة. فقد تضخّم الفقه حتى تحول في العصور الأخيرة إلى تصوير أحكام جزئية لا حصرلها، وتضخم علم الحديث فدخلت فيه عشرات الالوف من الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة وأخذت طريقها إلى الثقافة الاسلامية. بينما انكمشت علوم أرى حتى زالت عن الوجود أو كادت. فأين علم الاجتماع وأين علم النفس وهكذا العلوم الأخرى.
وهذا منهج غريب لم يعرف القرآن الكريم هذه التجزيئية أبداً ولم يقرّها في آية من آياته حتى شبه الشيخ الغزالي ـ في هذه الدراسة ـ القرآن الكريم بالكون الكبير الذي نعيش فيه. بل اعتبر ـ في وصف رائع له ـ القرآن الكريم كوناً معنوياً يضارع الكون المادي الذي خلقه الله سبحانه، فتراه يُقسم بعظمة أحد الكونين على عظمة الكون الآخر. قال تعالى: «فلا اُقسم بمواقع النجوم. وانّه لقسم لو تعلمون عظيم. انّه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلاّ المطهرون. تنزيل من ربّ العالمين» (الواقعة: 75 ـ 80).
وناقشت المدارسة فكرة التدرج، ورأت انها فكرة عامة لا تخصّ الجانب التشريعي فحسب، بل هناك تدرج في العبادة والدعوة، وهي ترى امكانية التدرج في التطبيق أو التنزيل على الواقع في عصرنا الحاضر، فوصول الأحكام إلى صيغتها النهائية لا يعني انتهاء فكرة التدرج.
ففي الوقت الذي يبقى فيه حكم الحلال والحرام ثابتاً لا تناله يد التبديل والتغيير، هناك فُسحة في مجال التطبيق وتنزيل الحكم على الواقع، ويضرب الشيخ الغزالي لذلك مثلاً فيقول: «لابد من الجزم ان الخمر رذيلة وشربها مبعد عن طبيعة الإسلام وطبيعة الطاعة لله، لكن في معاملتي للشاربين لازم ان أكون هيّناً ليّناً، فلا أقسو.. أتدرج هنا في تطبيق الأحكام كما تدرّجت في الأوّل.. أنا ممكن أن أمشي في العقوبات هنا بالطريقة التي مشى بها الأوّلون: أخوّف أوّلاً واُشدّد أخيراً».
وقد أيّد الشيخ الغزالي ما انتهى إليه الشيخ رشيد رضا والخضري في نفي النسخ في القرآن الكريم بالمعنى الشائع للنسخ، أي إبطال حكم آية بآية أخرى، حيث قال: ليس في القرآن أبداً آية يمكن ان يُقال انها عُطلّت عن العمل وحكم عليها بالموت.. هذا باطل، كل آية يمكن أن تعمل، لكن الحكيم هو الذي يعرف الظروف التي يمكن أن تعمل فيه الآية وبذلك توزع آيات على القرآن الكريم على أحوال البشر بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويرفض المتحاورون (عمر عبيد حسنة والشيخ الغزالي) أن تبنى العقائد على أساس خبر الآحاد، قال الغزالي في هذه المدارسة:
«القول بأنّ أحاديث الآحاد تبني العقائد وتفيد اليقين قول غير صحيح، وما يقوله بعضهم في هذا مرفوض. ولا يمكن بناء عقيدة على أحاديث الآحاد. خاصة وانّ العقائد قد تكفل بها القرآن، وليست ـ عندنا ـ من صنع المجامع كما هي في المسيحية، ولا من مرويات أحادية اطلاقاً».
ولا يرى الشيخ الغزالي كما أوضح في هذا الحوار بأساً في استعارة بعض المصطلحات، إذا كان ما منها بد. يقول:
«قد يقع انني استعير عناوين عند القوم كالاشتراكية، أو الديمقراطية أو ما إليها.. والحقيقة ان المستعير قد يكون ما منها بد عندما يكون التقصير الاسلامي واضحاً أو فاضحاً في مجال معين، وتبقى مصطلحات لها مفهومات ودلالات معينة، لابد من الانتباه لها.
فإذا قلنا: ان الإسلام دين ديمقراطي، فكلمة ديمقراطية يونانية الأصل، والمحور الذي يدور عليه التطبيق هناك هو ضمان المصلحة بتحكيم أكبر قدر ممكن من اُولي الألباب، واشراكهم في اتخاذ القرار، ومنع الاستبداد الفردي، ومنع استطالة واحد على الناس بفضل مال أو غيره... فإذا كنا نحن لم نصل في اجتهاداتنا الإسلامية لوضع برامج ووسائل لتطبيق الشورى، بل عندنا للأسف من يقول ان الشورى غير ملزمة للحاكم، فان المصطلحات التي تجيء من الخارج ستنتصر، ما دُمنا نحن ضد الفطرة وضد الأصل الذي هو عندنا وهو الشورى».
وينتقل الحوار إلى السنن التي تحكم الاُمم والمجتمعات والقوانين التي تسيّر التاريخ، فهناك سنة التداول الحضاري وسنة المدافعة والتسخير والأجل والتدرج، وهي سنن يقرها الإسلام ويرشد العقول اليها، وقد راعاها القرآن ولفت اليها القول: «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيّام نداولها بين الناس...» (آل عمران: 193 ـ 140).
يقول الشيخ الغزالي في حواره:
«عند النظر إلى تواريخ العالم في الشرق، أجد ان الامبراطوريات والدول كأنها تشبه البشر. لانّ لها أعماراً تنتهي اليها. صحيح ان الحضارة ظهرت في الشرق الأوسط، ويبدو ان هذه هو السر في أغلب النبوّات في الشرق الأوسط، لان ازدهار الملكات الإنسانيّة كانت في حضارة مصر والشام والعراق وجنوب أوروبا في اليونان وايطاليا، أي البحر المتوسط تقريباً.. كانت في أطراف العالم، كانها كانت محلية أو ما رأيت انها بلغت في النمو العقلي ما بلغته حضارة الشرق الأوسط.. هذا كله نوع من الحدس.
لكن الذي ظهر لي ان الحضارة أشرقت من مصر ثم انطفأت.. وأشرقت من اليونان ثم انطفأت.. وأشرقت من الرومان ثم أنطفأت.. وأشرقت من بلاد العرب بالسلام ثم خبت».
ثم يقول:
«انا أتصور ان هناك حضارة دينية يكون الاسلم لبابها، هي التي ترث العالم. وفي ظني ان هذه الحضارة الإسلامية ستعم العالم قبل ان ينقضي تاريخ الدنيا».
وينعى الشيخ على الحكم في اضطراب الامور وتدهور الأحوال، ويرى انّه السبب في ذلك في اغلب الأحيان، إذ يقول:
«هذه الاُمة تمرض ولا تموت، والعلل التي تصيبها يجيء أغلبها من اضطراب الحكم، فالعطب يكون دائماً من القشرة التي تغلّف العود وهي الحكم.. فساد الحكم قشرة في النظام الاسلامي، لأن الإسلام ليس حزباً سياسياً، انما هو مجموعة قيم وتعاليم، قد يكون الحكم حزاماً يشد التعاليم، لكن بقية التعاليم قائمة مع انقطاع الحزام.. ويظهر هذا جلياً مع سقوط بغداد، فان التتار دخلوا في الإسلام رغم محاولات أوروبا العصبية والشديدة في أن تجر التتار اليها، وان تجعل منها حرباً صليبية، بل كانت هي فعلا كذلك، وتدرس في تاريخ أوروبا على انها حملة تتارية صليبية معاً، إلاّ أنّ الاندلس حقيقة تعرضت لحملة إبادة تُشبه القنبلة الذرية، لأن الحقد الصليبي تجمع كله فيما يُسمى بمحاكم التفتيش، فكانت التصفية الجسدية ـ بتعبير العصر ـ هي الأساس في محو الإسلام من اسبانيا.. وكان ينبغي أن يأخذوا من هذه عبرة.. والأمر نفسه حدث في يوغسلافيا».
ويتحول الحوار إلى سنة التدافع، فيرى ان التحدّي والاستفزاز ـ الذي يعتبره علماء الحضارة أمثال توينبي ـ هو السبب الهام في الاستجابة والنهوض الحضاري، يرى ذلك فيقع ضمن مساحة سنة التدافع، ويبحث المتحاوران عن وجه آخر لهذه السنة، فيجدون ان التناقض فيما بين القوى العالمية التي تحمل العداوة للمسلمين الذي قد يحملها أحياناً على الاقتتال والمواجهة انما هو نوع من التدافع الذي يحكي عن القرآن الكريم وما على المسلمين في حالة ضعفهم وعدم قدرتهم الا ان يستثمروا التناقض القائم فيظفروا بحق الحياة ثم يستردوا ما فقدوا من مساحة مكانية في الاستعمار، وما أصابهم من نكبات سياسية واجتماعية كثيرة، غير ان الأمر يحتاج إلى شيئين كما يقول الشيخ الغزالي: يحتاج إلى اخلاص عميق للعقيدة والمبدأ، وذكاء عميق أيضاً ليفتق الحيل حتى يصل إلى ما يريد، ولعل اليهود استطاعوا ان يستفيدوا من سنة المدافعة أكثر منّا.
وتحدث الشيخ الغزالي عن التسخير فقال:
«ان تقسيم الناس إلى طبقات من السنن التسخيرية، فهناك مهندس وهناك عامل، ولابد أن يسخر المهندس والعامل، لأن المهندس كأنه يمثل الدماغ، والعامل كأنه الساعد في يده. القيادة والجند، القائد يبقى في مكان يُصدر منه الأوامر ولا يتلقى الضربات وانما يتلقاها الجند، والمعارك لا تدور إلاّ بهذا. فهذه سنن تسخيرية».
ويلفت الاُستاذ عمر حسنة النظر إلى جانب آخر من التسخير فيقول:
«ان الله سبحانه وتعالى حينما سخّر لنا البحر والأرض والشمس، لفت نظرنا لأهمية اكتشاف قوانين التسخير الكونية، ولست أقصد الاجتماعية بين الناس. فمعرفتنا لهذه القوانين التي تنتظمها هي التي تمكننا من القدرة على تسخيرها. أي ان التقدم العلمي لا يمكن ان يتحقق إلاّ بفهم قوانين التسخير».
ويعود الشيخ الغزالي لسن التدرج التي سبق ان ألمح اليها، فيضرب لذلك مثلاً بالربا، فيقول:
«الربا نفسه لم يتم تحريمه إلاّ في حجة الوداع تقريباً، لأن آيات سورة البقر من آخر ما نزل من القرآن الكريم، وألحق بموضوع الربا موضوع الزكاة في سورة البقرة.. وكان أول ما نزل سورة الروم: «وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاُولئك هم المضعفون» (الروم: 39).
ثم وجدنا حديثاً عن الربا في سورة النساء يتحدث عن أهل الكتاب: «بظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات اُحلّت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه» (النساء: 160 ـ 161)، فكان هذا اشارة إلى أن الربا محرّم.
ثم وجدنا ما نزل في سورة آل عمران: «لا تأكلوا الربا أضعافا مُضاعفة» (آل عمران: 130)، ثم جاء بعد ذلك ما نزل في سورة البقرة وكان حاسماً: «يا أيها الذين آمنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الربّا إن كنتم مؤمنين» (البقرة: 278)».
ويأخذ الاُستاذ عمر عبيد حسنة في هذه المدارسة عن بعض الدّعاة استعجالهم النتائج وعدم التفاتهم إلى سنة الأجل التي عبرت عن ارتباط الأشياء بآجالها، فالله سبحانه وتعالى ـ يقول الشيخ الغزالي ـ قادر على أن يخلق الجنين بدل تسعة أشهر في تسعة أيام، في يوم واحد، في لحظة.. وقادر على أن يجعل الحبوب أو (حب الحصيد) كما ذكر بدل ان يحتاج إلى خمسة أو ستة شهور كما في القمح وشهرين أو ثلاثة في الذرة، كان من الممكن ان يقع هذا فجأة ودفعة واحدة، لكنه سبحانه، كما خلق الكون في عدة أيّام. جعل التدرج هنا في أزمنة..».
ويفرّق الاُستاذ عبيد حسنة بين الاقدار والآجال، فيقول:
«ان الأقدار قد تكون أقرب إلى النوع والصفة، والآجال قد تكون أقرب إلى الشروط والعمر الزمني المطلوب لانضاج الفكرة بعد مراحل تربوية متتابعة».
وأخيراً ينتهي المتحاوران إلى ان اكتشاف هذه السنن بما فيها السنن الالهية في الأنفس والآفاق أمر لابد منه للشهود الحضاري (عمارة الأرض والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني). واكتشاف السنن هو الذي مكن العالم المتقدّم من التقدّم والتحكّم. وغفلة المسلمين عنها كانت سبب الانحطاط والسقوط والتخلّف، وأصبحوا مسخَّرين بدل مسخِّرين.
ويتفق المتحاوران على ان المسلمين لا يعانون من أزمة منهج كما هو شائع الآن، وانما يعانون من أزمة فكر، وتعامل وفهم لهذا المنهج.
ولا يكتم الشيخ الغزالي ألمه من الأوضاع السياسية وينعى على الاُمة تخاذلها في أداء دورها وانصرافها عن همومها العظام إلى هموم صغار، ثم يطلق نداءً ملتاعاً إلى ضرورة ايجاد ضمانات للمفكرين والفقهاء المصلحين الذين يجازفون فيكسرون حاجز الصمت وحاجز التقليد الأعمى، وحاجز الكسل والخمول، يقول:
«المطلوب اليوم: وجود ضمانات شعبية أو عقلية أو مادية أو قانونية... الخ للعلماء والمفكرين والفقهاء. ذلك انّي أرى ان عقلاء هذه الاُمة يُظلمون واحداً بعد الآخر، ويعيشون مشردين، وفي العصر الذي أنا منه الآن، رأيت خيرة قادة الفكر الاسلامي، أما ماتوا مظلومين، أو مضطهدين، أو مضيّقاً عليهم الخناق، أو أن ظفروا بعيش هادىء، فلأسباب غير عادية، استثنائية. كأن الأساس هو: ان الإنسان طالما كان من فقهاء الإسلام ومفكريه، يضرب حوله نطاق، فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، أي يجب ان يبقى مقطوع الاتصال بالناس، وإذا حدث أن حاول أن ينطلق هنا وهناك، يُعتقل، يُسجن..».
ويضيف الشيخ الغزالي قائلاً:
«كل ما رأينا من أخواننا الذين لهم فكر، يريدون العمل هنا وهناك، لا يعاملون إلاّ معاملة قطاع الطرق».
ولا يبرىء الشيخ الغزالي الاُمة من الذنب والتقصير في وصول الاُمور إلى هذه الحال، حيث يقول:
«والاُمة مسؤولة عن هذا.. وما قيمة أن يُقال ان الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد. ما يعني ان الشعب يحبني إذا كان سيتركني اُقتل؟!».
ويطلق الشيخ زفرة من الأعماق، فيقول:
«إذا كانت وظيفة القلم، أو الرأي ان يخدم أصحاب السلطة، فان الاُمة الإسلامية ستكون آخر الاُمم. عندنا أزمة فهم.. عندنا أزمة فقه.. عندنا مع هذا وذاك أزمة فكر.. والمحزن ان الذين يملكون الفكر يملكهم ما يملكون السيف».
ويعود الحوار إلى أجواء الفكر والثقافة من جديد، فيتفق المتحاوران ان هناك خللاً فكرياً ثقافياً، ويرى الشيخ الغزالي ان الثقافة الإسلامية قد أصابها شيء من الاعوجاج، فمن ناحية التربية والتصور، انسحب الناس من الحياة.. ورأوا ان المجتمع فاسد وهربوا منه بدل أن يغيّروه..».
وإذا نظرنا في فقه المعاملات والعبادات ـ يقول الشيخ ـ أنا لا أعرف اُمّة أطالت الوقت في الفروع الفقهية كاُمّتنا... الوضوء مثلاً، يمكن ان يتعلم في دقيقتين، فما الذي يجعل فيه مئات الصفحات والكتب. بل المجلدات، وتختلف المذاهب فيه؟ هذا شيء عجب.
وفي حديثه عن الفقه والفقهاء ينتقد الشيخ الغزالي ابن تيمية ويُبدي استغرابه من شيئين عند ابن تيمية وكذلك تلميذه ابن القيم.
الأول: انّه أنكر المجاز في القرآن، وهو أمر بديهي في القرآن.
الثاني: انهما كادا ان يقعا في التجسيد.
ويحذّر المتحاوران من أن يتحول التراث الذي يشكل مفاتيح مساعدة على فهم القرآن إلى حاجز وعائق بين المسلمين وبين النهل من النص الأصلي.
يقول الشيخ الغزالي: ان الاُمة السلامية حدث فيها للعجب، حيث تركت الكتاب للسنة ثم تركت السنة لأقوال الأئمة... ثم تركت أقوال الأئمة لمؤلّفي المتون.
ولكنه يلفت الانتباه إلى خطر آخر أشد من هذا، ذلك هو القفز من فوق التراث ومحاولة الاتصال بالكتّاب، وتقرير الأحكام دون التحقيق بالشروط المطلوبة لذلك، وبهذه المناسبة يشن الشيخ الغزالي هجوماً قويا على المستشرقين ويستخف باُولئك الذين يتبعونهم دونما عقل، يقول:
«أحياناً كنت عندما اُناقش المستشرقين اتكلم بكلام فيه حدة واحتقار شديد، وأنا اعتمد هذا.. لماذا؟ لأني وجدت بعض الناس ينظر اليهم كأنهم شيوخ في محاريب العلم، وهؤلاء أفاكون، يشتغلون في وزارات الاستعمار لمحاربة الإسلام فقلت: لابد من تمزيق هذاالقناع وكشف نصوص العلم للناس على حقيقتها».
ويوجه المتحاوران دعوة مشتركة التى تأسيس علوم اجتماعية وتدوينها على أساس الاسلم من خلال النظر في القرآن الكريم، حيث يقول الشيخ الغزالي:
«الأمر هام، ويجب ان تقوم به جامعات اسلامية الآن، ويجب ان تختار هذه الجامعات رجالاًلهم خبرة بالعلوم الأجنبية، وفي الوقت نفسه لهم اطّلاع على التراث الاسلامي، ومعهم بعض الذين لهم خبرات قرآنية ودراسات قرآنية معمقة. كفريق عمل ومن ثمّ فالكل يمكن ان يطلعوا لنا بعدة علوم مرّة واحدة: علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ... الرسول كان يعلم المغازي كما يعلم السور من القرآن لكي يربط الاُمّة».
وعن السبب في اختيار العرب ليكونوا مادة الإسلام الاُولى ولتكون لغة القرآن هي اللغة العربية وانّه قرآن عربي، يؤكّد المتحاوران المقصود هنا عروبة اللسان لا عروبة الجنس والقوم. ويرى الشيخ الغزالي انّه كان لابد أن تكون الرسالة في هذا الجنس، يقول في تعليل ذلك: لأنّه ما كان يمكن ان تكون في الفرس ولا في الروم، لأن السلطة المركزية الموجودة في فارس والروم كانت ستلقي القبض على مدعي الرسالة وتنتهي منه في يوم. لكن الحياة العربية ـ يقول الشيخ ـ حياة من لون خاص، فقد وفرت لأصحابها من الحرية، ما تعرفه الآن الولايات المتحدة وانجلترا وفرنسا. أمكن ان ينتعش الفرد في هذه الأيام انتعاشاً يحس بشخصيته، وبقدرته، وباقتداره المادي والاُخروي دون ان يكون هناك حد لهذا. فالقبائل العربية كفلت لأبنائها بهذا التعصب أو التجمع ما جعل كل واحد منهم يفعل ما يريد.
وربما احتاجت الرسالات العظيمة إلى خصائص قد توفرت في العربي، فهو معتد بنفسه قبل المؤونة. يقول التاريخ: ان الجيش الفارسي وكذلك الرومي كانت وراءه عربات الأطعمة.. أما العربي، فيكفيه ان يضع في جيبه تمرات ويُقتل.. لم يألفوا ذل الخضوع لسلطة مطلقة. الانحناء للملوك، والفساد الناشىء عن ترف والانحلال والرّخاوة، كل ذلك لم يكن موجوداً عند العرب.
يضيف الاستاذ عمر عبيد حسنة إلى ذلك انّه كانت هناك ـ في العرب ـ بعض التوجهات للأفكار المثالية: كوجود الحنفاء في ذلك المجتمع وتأبيهم عن عبادة الأصنام وتفكيرهم في بعض الفضائل الاجتماعية مثل: اتفاقهم في حلف الفضول على أن لا يبقى مظلوم في مكة إلاّ وترد له مظلمته، ثم شعورهم ان التنزه عن الدنيا مطلوب.
لكن هذا لا يعني ان العرب كانوا في مستوى من العطاء والعبقرية بحيث سيصلوا إلى ما وصلوا إليه حتى لو لم ينزل عليهم القرآن فذلك أمر مرفوض. يقول الشيخ الغزالي: «ان العرب ـ لولا الإسلام ـ كان يمكن ان يبقوا على ما كانوا عليه طوال حياتهم».
ويثير الحوار نقطة مهمة يحاول المتحاوران استجلاءها واعطاء الفهم الناضج لها. تلك هي مسألة النهي عن التفسير بالرأي التي ربما أدى التطرف في الالتزام بها إلى الجمود على المأثور وعدم تجاوزه بأي حال حتى لو كان هذا المأثور ضعيفاً وربما اعتبر ذلك نقضاً لخلود القرآن وعدم تجاوزه بأي حال حتى لو كان هذا المأثور ضعيفاً وربما اعتبر ذلك نقضاً لخلود القرآن ومقتضى التدبر فيه. ولكن الشيخ الغزالي يعرب عن اعتقاده ان الرأي الذي نهينا عن تفسير القرآن به هو الهوى.. وهو أن يكون الإنسان سيء النية أو متجهاً إلى مأرب من مآرب فيتلو القرآن، ويلوي عنقه كي يخدم هذه المأرب أو هذا الرأي.. وهذا هو المحرم شرعاً، لا أن يكون للانسان رأي في تفسير القرآن مع ضوابط اللغة التي لا يمكن اختراقها. لأننا ـ يقول الشيخ الغزالي ـ لا نريد أن ندخل في شطحات المتصوّفين التي ليس لها ضابط.
المهم: انّه يمكن أن نفهم القرآن فهماً اجتماعياً وسياسياً في حدود ضوابط اللغة. ويضيف قائلاً: ان التفسير بالرأي نوع من التفاسير كالتفسير الأثري والفقهي والكلامي والبياني والصوفي والعلمي.. ولعل التفسير الذي بدأ به الشيخ رشيد رضا نوع من التفسير الذي يجمع أنواعاً من الآراء.. فهو مدرسة متعدّدة المناهج في فهم القرآن.. يقول: فأنا أرى ان التفسير بالرأي لم يتوقف، بل العكس، فقط طغى التفسير بالرأي على التفسير الأثري، وهناك عدد كبير من الناس يرى ان الاقتصار على التفسير الأثري يقيّد الآيات.. وأكاد أقول: ان التفسير الأثري أخضع الآيات للأحاديث.
ثم يشدد الغزالي على ان القرآن كتاب عربي، يخضع للأساليب العربية في الفهم، ولا نسمح أبداً بالشطحات.. لابد ان تبقى الكلمة هي الكلمة.. لابد ان يفهم القرآن من خلال معهود العرب في الخطاب، فكما تشرح أي قصيدة شعرية: الكلمات، والمجاز، والاستعارة والتشبيه والكناية، كل هذا يبقى في نطاق االصطلاحات العربية لا نخرج عليها، فمعنى انّ القرآن عربي: هو انّه يخضع للفهم بالاسلوب العربي.
وفي الوقت الذي يشدد فيه المتحاوران على ضرورة التزام القواعد الصحيحة في التفسير والتقيد بالضوابط التي تعصم المفسّر من الزّلل، فانهما أكّدا على ضرورة الامتداد مع القرآن وإفساح المجال أمامه لكي يستوعب الحياة ويحتضن الكون بأكمله ويمتد مع الزمن، فان ذلك مقتضى خلوده، واعتبرا ان مقولة: لا يمكن أن يتأتّى للفهوم القادمة ما تأتّى لفهم القرون الاُولى الذين عاصروا التنزيل، لا يمكن ان تقبل بأخلاقها «فرُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، فان العصر الأول ـ يقول الشيخ الغزالي ـ وقف فيه ـ أي القرآن ـ عند حد، وان العصور المتأخرة لابد ان تزيد ذلك لأن القرآن تكلم مرتين عن المستقبل وقال في آخر سورة النمل:
«وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربُّك بغافل عمّا تعملون»(93)، وفي آخر سورة فصلت: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انّه الحق أو لم يكف بربّك انّه على كل شيء شهيد»(53)، فهذه الاراءة التي تكون في الأنفس والآفاق مع الزمن المقبل وليست مع الزمن الماضي
ويلاحظ الشيخ الغزالي على العرب انهم لم يخدموا عالمية القرآن كما يجب.. ويرى ان عالمية القرآن خدمها التجار والسياح وبعض الذين يعبدون الله، ويقول:
«خدمة القرآن من الناحية العالمية جاءت شعبية ولم تجيء رسمية، وهذا خطأ، بل حدث ما هو عكس ذلك، حيث قام المسؤولين الحكوميين باستيراد ما عند الآخرين قبل أن يصدّروا ما لديهم للآخرين».
ويختم الشيخ الغزالي كلامه قائلاً: لابد ان تتلاقى تيارات الفكر العالمي عندنا.. إذا لم يكن تيارنا قوياً، فنحن نستحقّ ما يصيبنا. الإسلام إنما يعلو ـ ولا يُعلى عليه ـ ببقائه إسلاماً.. فإذا تحول الإسلام ـ وهو دين العقل ـ إلى تقليد أعمى في أرضه، فانه لا يسمى اسلاماً. لابد ان تكون أصول الإسلام القرآ ية يافعة في مجتمعه، وأن تمتد ثمرته لتكون في آفاق الأرض كلها.
ويوجه الشيخ دعوة ملحة للمسلمين جميعاً لأن يعودوا إلى القرآن الكريم ليكون محور حياتهم، ويجب أن ينظروا إليه كلا وجزءاً على انّه دعامة اُمّة.. هو عقلها المفكّر.. هو ضميرها الصاحي.. هو علمها المرفوع